في خضم التفاعلات اليومية، نحتاج كثيراً إلى لفت انتباه الآخرين وتوجيه الحديث إليهم، وهنا يأتي دور أسلوب النداء في لغتنا العربية. النداء ليس مجرد صياح لطلب الانتباه، بل هو نظام نحوي دقيق له أدواته الخاصة، وأنواعه المتعددة، وأحكامه الإعرابية التي تختلف باختلاف المقصود بالنداء.
![]() |
| المنادى في اللغة العربية: أدواته، أنواعه الخمسة، وأحكامه الإعرابية |
المنادى يحتل مكانة بارزة بين المنصوبات (أو ما هو في محل نصب). يُعرف النداء بأنه: الدعوة إلى الانتباه والاستماع بواسطة حروف تسمى أدوات النداء. أما المنادى فهو الاسم الواقع بعد هذه الأدوات.
في هذا المقال الشامل، سنقوم بتفكيك أسلوب النداء، بدءاً من أدواته (القريب والبعيد)، ومروراً بأنواع المنادى الخمسة (العلم، النكرة المقصودة، غير المقصودة، المضاف، والشبيه بالمضاف)، وصولاً إلى الأحكام الخاصة بنداء ما فيه "أل" ولفظ الجلالة، مستشهدين بالآيات القرآنية التي توضح كل حالة.
أدوات النداء: مفاتيح التواصل
لا يتم النداء إلا بأداة، هذه الأدوات رتبت حسب الاستخدام:
- يا: وهي الأشهر والأكثر استعمالاً لنداء القريب والبعيد.
- أي - الهمزة: لنداء القريب.
- هيا: لنداء البعيد.
ولكن اللافت في الشرح أن "يا" هي الأداة المسيطرة في معظم الأمثلة القرآنية والنحوية.
أنواع المنادى الخمسة
ينقسم المنادى إلى خمسة أنواع رئيسية، تنقسم من حيث الحكم الإعرابي إلى قسمين: قسم مبني، وقسم معرب (منصوب).
القسم الأول: المنادى المبني (يبنى على ما يرفع به)
يشمل هذا القسم نوعين فقط، وحكمهما البناء على حركة الرفع (الضمة، الألف، الواو) في محل نصب:
1. المنادى المفرد العلم:
هو ما دل على مسمى بعينه (اسم شخص أو مكان) ولم يكن مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف.
- الحكم: يبنى على ما يرفع به (الضمة غالباً).
- شاهد قرآني: ﴿يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: 33].
- آدمُ: منادى مبني على الضم في محل نصب.
- ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً﴾ [ص: 26]. (داودُ: منادى مبني على الضم).
- ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ [الأنبياء: 69]. (نارُ: هنا تعامل معاملة العلم أو النكرة المقصودة، وفي سياق إبراهيم هي محددة).
- مثال: "يا جبالُ" (مبني على الضم).
2. المنادى النكرة المقصودة:
هو الاسم النكرة الذي تقصده بعينه عند النداء، وكأنك تشير إليه (مثل قولك لطالب معين أمامك: يا طالبُ).
- الحكم: يبنى على ما يرفع به.
- شاهد قرآني: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ [سبأ: 10].
- جبالُ: منادى مبني على الضم في محل نصب، لأنها نكرة قُصدت بالنداء.
- مثال: "يا نارُ" (في قصة إبراهيم عليه السلام، حيث خوطبت النار بعينها).
القسم الثاني: المنادى المعرب (منصوب دائماً)
يشمل هذا القسم ثلاثة أنواع، وحكمها النصب المباشر:
3. المنادى النكرة غير المقصودة:
هو الاسم النكرة الذي لا يقصد به شخص معين، بل يصدق على كل فرد من جنسه (مثل قول الأعمى: يا رجلاً خذ بيدي).
- الحكم: واجب النصب.
- مثال : "يا ظالماً اتقِ الله". (موجه لكل ظالم).
4. المنادى المضاف:
هو المنادى الذي يأتي بعده مضاف إليه (اسم مجرور أو ضمير) ليتمم معناه.
- الحكم: واجب النصب.
- شاهد قرآني: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾. (أهلَ: منادى منصوب، الكتابِ: مضاف إليه).
- مثال: "يا طالبَ العلمِ".
- حالة خاصة (المضاف لياء المتكلم): مثل ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ [نوح: 28].
- ربِّ: منادى منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة. (أصلها: يا ربي).
5. المنادى الشبيه بالمضاف:
هو ما اتصل به شيء يتمم معناه (جار ومجرور، أو معمول له)، وغالباً ما يكون منوناً.
- الحكم: واجب النصب.
- مثال : ﴿يَا طَالِعًا جَبَلًا﴾.
- شاهد: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ [يس: 30]. (حسرةً: منادى شبيه بالمضاف منصوب، جاء بعده جار ومجرور).
نداء ما فيه (أل) ولفظ الجلالة
نداء الاسم المعرف بـ (أل) بقاعدة مستقلة، حيث لا يجوز نداءه مباشرة بـ "يا" (لا نقول: يا الرجل). والحل هو إدخال واسطة:
- للمذكر: نستخدم "أيها". ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ﴾ [الانفطار: 6].
- أيُّ: منادى مبني على الضم في محل نصب (يعامل معاملة النكرة المقصودة).
- الهاء: للتنبيه.
- الإنسان: نعت مرفوع (أو بدل).
- للمؤنث: نستخدم "أيتها". ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27].
نداء لفظ الجلالة (الله):
له خصوصية؛ فيجوز فيه وجهان:
- يا الله: (بقطع الهمزة أو وصلها).
- اللهمَّ: وهي الأكثر استعمالاً. وتعرب: "الله" منادى مبني على الضم، والميم المشددة عوضاً عن "يا" المحذوفة.
- شاهد: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران: 26].
أحكام حذف أداة النداء والترخيم
حذف أداة النداء بكثرة في القرآن الكريم، خاصة مع لفظ "رب" أو الأسماء القريبة من القلب.
- شاهد: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا﴾ [يوسف: 29]. (التقدير: يا يوسف).
- ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ [البقرة: 286]. (التقدير: يا ربنا).
تطبيقات عملية من تدريبات الكتاب
لترسيخ القواعد، نستعرض تحليلاً لنماذج من تدريبات:
في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ [الأعراف: 31].
- بني: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
في قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النَّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32].
- نساءَ: منادى مضاف منصوب بالفتحة الظاهرة.
في قوله تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ [سبأ: 10].
- جبالُ: منادى نكرة مقصودة مبني على الضم.
في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1].
- أيُّ: منادى مبني على الضم في محل نصب.
- الكافرون: نعت مرفوع بالواو.
ختاماً، يتضح لنا أن "المنادى" باب واسع يجمع بين البناء والإعراب.
- إذا كان علماً أو نكرة مقصودة: ابنه على الضم.
- إذا كان مضافاً، شبيهاً بالمضاف، أو نكرة غير مقصودة: انصبه.
- إذا كان معرفاً بـ (أل): استخدم "أيها/أيتها".
إن إتقان هذه الأنواع الخمسة وحكم كل منها هو المفتاح للتفاعل الصحيح مع النصوص العربية وفهم نداءات القرآن الكريم بدقة.
.webp)