يُعد أسلوب الإنشاء الطلبي أحد أهم الأركان التي يقوم عليها علم المعاني في البلاغة العربية، وهو المفتاح الحقيقي لفهم جماليات الكلام العربي وقدرته الفائقة على التأثير في النفس. إننا حين نتحدث عن البلاغة، لا نتحدث عن مجرد قواعد جامدة، بل عن نسق حيوي يهدف إلى مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
![]() |
| أسلوب الإنشاء الطلبي | شرح مبسط مع أمثلة قوية |
ومن هنا، يبرز الإنشاء الطلبي كأداة تعبيرية لا تهدف إلى نقل معلومة تحتمل الصدق أو الكذب، بل تهدف إلى استدعاء مطلوب غير حاصل وقت الطلب، مما يفتح آفاقاً واسعة للتعبير عن المشاعر، الأوامر، النواهي، والاستفهامات التي تخرج عن معانيها الأصلية إلى أغراض بلاغية دقيقة.
في هذا المقال، سنغوص في أعماق أساليب الإنشاء الطلبي كما وردت في أصول البلاغة العربية، مفصلين أنواعها الخمسة: الأمر، النهي، الاستفهام، التمني، والنداء، ومستعرضين كيف تتحول هذه الأساليب من وظيفتها النحوية المباشرة إلى أدوات بلاغية تخدم أغراضاً نفسية وأدبية رفيعة.
مفهوم الإنشاء الطلبي في البلاغة العربية
لفهم أسلوب الإنشاء الطلبي، يجب أولاً تمييزه عن "الخبر". الخبر هو كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، أما "الإنشاء" فهو ما لا يحتمل ذلك؛ لأنه إيجاد للمعنى في الواقع وليس حكاية عنه. وينقسم الإنشاء إلى قسمين رئيسيين: طلبي وغير طلبي. ما يهمنا هنا هو الإنشاء الطلبي، وهو الذي يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت التكلم.
تكمن عبقرية هذا الأسلوب في أنه لا يكتفي بالمعنى الوضعي للألفاظ، بل يتجاوزه إلى معاني "مجازية" أو "بلاغية" تُفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال. فعندما يقول الشاعر للييل "ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي"، هو لا يأمر الليل حقيقة، بل يعبر عن حالة شعورية عميقة.
أولاً: أسلوب الأمر.. صيغه وأغراضه البلاغية
الأمر في حقيقته هو طلب الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء والإلزام. ولكن البلاغة العربية رصدت أربع صيغ رئيسية للأمر، تتنوع في استخداماتها:
- فعل الأمر الصريح: وهي الصيغة الأصلية والأكثر شيوعاً، مثل قولنا "اجتهد".
- المضارع المقرون بلام الأمر: حيث تدخل اللام الجازمة على الفعل المضارع لتفيد الطلب، مثل قوله تعالى: "وليطوفوا بالبيت العتيق".
- اسم فعل الأمر: وهي ألفاظ تدل على معنى الأمر ولكنها لا تقبل علاماته، كقولنا "عليكم أنفسكم" بمعنى الزموا.
- المصدر النائب عن فعل الأمر: وهو استخدام المصدر للدلالة على الطلب وتأكيده، كقوله تعالى: "وبالوالدين إحساناً"، أي أحسنوا إحساناً.
خروج الأمر عن مقتضاه الظاهر
قد يخرج الأمر عن معناه الأصلي (الإلزام والاستعلاء) إلى أغراض بلاغية أخرى تُفهم من السياق، ومن أبرزها:
- الدعاء: إذا كان الطلب من الأدنى إلى الأعلى منزلة (من العبد إلى ربه)، مثل: "رب اغفر لي".
- الالتماس: إذا كان الأمر بين متساويين في الرتبة، كأن يطلب صديق من صديقه: "قفا نبكِ".
- التعجيز: عندما يُطلب أمر لا يستطيع المخاطب فعله لإظهار عجزه، مثل قوله تعالى: "فأتوا بسورة من مثله".
- التمني: عندما يوجه الأمر لما لا يعقل، مثل خطاب الشاعر لليل: "ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي".
- الإهانة والتحقير: مثل قوله تعالى: "كونوا حجارة أو حديداً".
- التهديد: كقوله تعالى للمكذبين: "اعملوا ما شئتم".
ثانياً: أسلوب النهي.. من التحريم إلى البلاغة
النهي هو طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء، وله صيغة واحدة معروفة في اللغة العربية وهي الفعل المضارع المسبوق بـ "لا" الناهية. ورغم وحدة الصيغة، إلا أن الأغراض البلاغية للنهي تتعدد وتتشعب بناءً على السياق.
فكما في الأمر، يخرج النهي إلى معاني أخرى مثل:
- الدعاء: مثل قوله تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا".
- التيئيس: لقطع الأمل في أمر ما، مثل: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".
- التوبيخ: لمن يفعل شيئاً وينهى عنه، كما قال الشاعر: "لا تنه عن خلق وتأتي مثله".
- التحقير: التقليل من شأن المخاطب وقدراته، مثل قول المتنبي: "لا تشتر العبد إلا والعصا معه".
- الإرشاد: عندما يكون النهي في مصلحة المخاطب، مثل: "ولا تجلس إلى أهل الدنايا".
ثالثاً: الاستفهام.. أدواته وأسراره
الاستفهام هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل. وله أدوات محددة تنقسم بحسب نوع الجواب المطلوب (تصور أو تصديق). "الهمزة" و"هل" هما الحرفان الرئيسيان، بينما البقية أسماء (من، ما، متى، أيان، كيف، أين، أنى، كم، أي).
من الدقائق البلاغية في أدوات الاستفهام:
- الهمزة: تُستخدم لطلب التصديق (الجواب بنعم أو لا) ولطلب التصور (التعيين)، وهي الأداة الأقوى والأصل في الباب.
- هل: تُستخدم لطلب التصديق فقط، وتمتنع في مواضع معينة، مثل عدم الدخول على المنفي.
- من وما: "من" للعاقل، و"ما" لغير العاقل، وقد يُسأل بـ "ما" عن صفة العاقل أو حقيقته تعظيماً أو تحقيراً.
الأغراض البلاغية للاستفهام
كثيراً ما نستخدم الاستفهام ونحن نعلم الجواب، وهنا يخرج الاستفهام إلى أغراض بلاغية بديعة، منها:
- الإنكار: إنكار الفعل والنهي عنه، مثل: "أتعبدون ما تنحتون؟".
- التقرير: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه، مثل: "ألم نشرح لك صدرك؟".
- التعظيم: تهويل الشأن، مثل: "القارعة ما القارعة".
- التحقير: التقليل من الشأن، مثل قول المتنبي: "أطنين أجنحة الذباب يضير؟".
- الاستبطاء: اعتبار الأمر قد تأخر، مثل: "متى نصر الله؟".
- التشويق: إثارة الفضول، مثل: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم".
رابعاً وخامساً: التمني والنداء
التمني هو طلب أمر محبوب لا يُرجى حصوله، إما لاستحالته أو لصعوبة مناله. الأداة الأصلية للتمني هي "ليت"، ولكن قد يُتمنى بأدوات أخرى لغرض بلاغي، مثل "هل" و"لعل" و"لو"، لإبراز المتمنى في صورة الممكن القريب كمال العناية به.
أما النداء، فهو طلب إقبال المخاطب بحرف ينوب مناب الفعل "أدعو". وتتنوع أدواته بين ما هو للقريب (الهمزة، أي) وما هو للبعيد (يا، أيا، هيا). ومن لطائف البلاغة في النداء أن يُنادى القريب بأداة البعيد للدلالة على علو مكانته ورفعة قدره، أو للدلالة على انحطاط منزلته وبعده عن الفهم، أو يُنادى البعيد بأداة القريب للدلالة على استحضاره في القلب والذهن.
خاتمة: جماليات الإنشاء الطلبي
إن دراسة أسلوب الإنشاء الطلبي تكشف لنا عن مرونة اللغة العربية وقدرتها على استيعاب المقاصد النفسية المتنوعة. فليس كل أمر إلزاماً، وليس كل استفهام طلباً للمعرفة. إن البارع في اللغة هو الذي يدرك هذه الفروق الدقيقة، فيوظف "الأمر" للتهديد، و"النهي" للتيئيس، و"الاستفهام" للتعظيم، و"التمني" لإبراز الحسرة.
هذه الأساليب مجتمعة تشكل نسيجاً بلاغياً يسمح للمتكلم (أديباً كان أو خطيباً) بأن ينقل للمتلقي ليس فقط المعنى الذهني المجرد، بل الشحنة العاطفية والموقف النفسي المصاحب لهذا المعنى، وهو ما يمثل جوهر البلاغة: مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
