يُعد باب جزم الفعل المضارع من الركائز الأساسية في النحو العربي التي تميز بنية الجملة وتحدد دقة المعنى. فالفعل المضارع، الذي عهدناه معرباً ومرفوعاً في حالته الأصلية، يدخل في مرحلة تحول جذري في بنيته الصوتية والكتابية بمجرد أن تسبقه أدوات معينة تُعرف بـ "الجوازم". هذا التغيير المسمى بـ "الجزم" يختص به الفعل المضارع دون غيره من الأفعال، وهو يعكس مرونة اللغة العربية في التعبير عن النفي، والنهي، والشرط، والطلب.
 |
| جزم الفعل المضارع مع أمثلة واضحة |
سنقوم في هذا المقال بتفكيك منظومة الجزم، بدءاً من الأدوات التي تجزم فعلاً واحداً، مروراً بأدوات الشرط التي تربط بين فعلين، وصولاً إلى العلامات الإعرابية الثلاث (السكون، حذف حرف العلة، حذف النون) التي تظهر على آخر الفعل وتكشف عن حالته.
مفهوم الجزم وأدواته المؤثرة في فعل واحد
يبدأ التحول إلى حالة الجزم عندما يسبق الفعل المضارع أداة من الأدوات الجازمة. وبحسب التقسيم الوارد في الكتاب، تنقسم هذه الأدوات إلى نوعين رئيسيين. النوع الأول هو الأدوات التي تجزم فعلاً مضارعاً واحداً، وهي أدوات وظيفية تغير معنى الجملة وزمنها.
تتصدر هذه المجموعة الأداة "لم"، وهي حرف نفي وجزم وقلب، إذ تقلب زمن المضارع إلى الماضي، ومثالها الأشهر الذي أورده الكتاب قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: 3]، حيث جزمت الفعلين "يلد" و"يولد" بالسكون. تليها الأداة "لمَّا"، وهي تفيد النفي المستمر حتى زمن التكلم مع توقع حدوث الفعل، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14].
ومن الأدوات التي تفيد الطلب، نجد "لام الأمر"، وهي اللام التي تدخل على المضارع لتفيد الأمر، وتكون مكسورة في الأصل، ولكنها تسكن إذا سبقت بالواو أو الفاء، ومثالها: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾ [الطلاق: 7]. وأخيراً، "لا الناهية" التي تفيد طلب الكف عن الفعل، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ [لقمان: 18].
أدوات الشرط الجازمة (ما يجزم فعلين)
ينقلنا المنهج الدراسي إلى مستوى أكثر تعقيداً وبلاغة، وهو "أسلوب الشرط". هنا، لا تكتفي الأداة بجزم فعل واحد، بل تمتد سطوتها لتجزم فعلين: الأول يسمى "فعل الشرط"، والثاني يسمى "جواب الشرط". وقد استعرضت الصور قائمة موسعة لهذه الأدوات التي تربط الأسباب بالنتائج.
من أبرز هذه الأدوات "إنْ"، وهي حرف يربط الجواب بالشرط، مثل: ﴿إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]، حيث جزمت "تتقوا" (فعل الشرط) و"يجعل" (جواب الشرط). وهناك "مَنْ" التي تستخدم للعاقل، وشاهدها: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]. ولغير العاقل تُستخدم "ما" و"مهما"، مثل: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 197].
كما تغطي اللغة العربية ظروف الزمان والمكان والحال بأدوات شرط جازمة فصلتها الصور، مثل "متى" و"أيّان" للزمان، و"أين" و"أينما" و"أنّى" و"حيثما" للمكان، وشاهدها قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 78]. وأخيراً "كيفما" للحال، و"أيّ" التي تكون بحسب ما تضاف إليه.
علامات جزم الفعل المضارع
بعد التعرف على الأدوات، يبقى السؤال الأهم: كيف تظهر علامة الجزم على الفعل؟ الإجابة تكمن في "بنية الفعل" وحرفه الأخير. وقد فصلت المخططات الشجرية في الصور علامات الجزم إلى ثلاث علامات رئيسية: السكون، حذف حرف العلة، وحذف النون.
أولاً: السكون (للفعل صحيح الآخر)
العلامة الأصلية للجزم هي "السكون". وتظهر هذه العلامة عندما يكون الفعل المضارع "صحيح الآخر"، أي أن حرفه الأخير ليس ألفاً ولا واواً ولا ياءً. في هذه الحالة، يوضع السكون بوضوح على آخر الفعل.
ومن الأمثلة القرآنية الصريحة التي وردت في الكتاب: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾، حيث نرى السكون فوق الدال، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]، حيث السكون فوق الحاء.
استثناء هام: التقاء الساكنين
أشارت الصور إلى قاعدة صوتية دقيقة جداً تتعلق بالسكون. فإذا كان الفعل صحيح الآخر ومجزوماً بالسكون، وجاءت بعده كلمة تبدأ بحرف ساكن (مثل "ال" التعريف)، فإن السكون يُحرك إلى "الكسر" منعاً لالتقاء الساكنين. وقد استشهد الكتاب بالآية الكريمة: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ﴾. هنا، الفعل "يدخل" مجزوم وعلامة جزمه السكون، لكنه حُرك بالكسر لالتقاء الساكنين مع لام التعريف في كلمة "الإيمان".
ثانياً: حذف حرف العلة (للفعل المعتل الآخر)
العلامة الثانية للجزم هي "حذف حرف العلة". وتختص بالفعل المضارع "معتل الآخر"، وهو الفعل الذي ينتهي بالألف أو الواو أو الياء. عند دخول الجازم، يُحذف هذا الحرف الأخير، ونضع حركة قصيرة (فتحة، ضمة، كسرة) تدل على الحرف المحذوف.
وقد قدم الكتاب نماذج لكل نوع من حروف العلة:
- حذف الألف: في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]. أصل الفعل "تنسى"، حذفت الألف للجزم وبقيت الفتحة دليلاً عليها.
- حذف الواو: في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ﴾ [القصص: 88]. أصل الفعل "تدعو"، حذفت الواو وبقيت الضمة.
- حذف الياء: في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]. أصل الفعل "يتقي"، حذفت الياء وبقيت الكسرة.
- مثال آخر: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ [الإسراء: 37]، حيث جزم الفعل "تمشِ" بحذف الياء.
ثالثاً: حذف النون (للأفعال الخمسة)
العلامة الثالثة هي "حذف النون"، وتختص بـ الأفعال الخمسة (كل مضارع اتصلت به واو الجماعة، ألف الاثنين، أو ياء المخاطبة). في حالتي الرفع، تثبت النون، أما في الجزم فتُحذف.
وقد زخرت الصور بالشواهد القرآنية لهذه الحالة:
- مع واو الجماعة: ﴿وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 129]. الفعلان "تصلحوا" و"تتقوا" مجزومان بحذف النون لأنهما فعلا الشرط والمعطوف عليه.
- مع ألف الاثنين: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا﴾ [الأعراف: 23].
- مع ياء المخاطبة: في الأمثلة التعليمية مثل "لا تهملي واجبك"، حيث حذفت النون من "تهملين".
تطبيقات إعرابية من وحي التدريبات
لترسيخ القواعد، نستعرض بعض النماذج الإعرابية التي وردت في صفحات التدريبات، والتي توضح دقة هذا الباب:
في قوله تعالى: ﴿فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ﴾ [الأعراف: 150]. الفعل "تشمت" سُبق بـ "لا الناهية"، وهو صحيح الآخر، فكانت علامة جزمه السكون الظاهر.
أما في قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 148]. هنا اجتمعت علامتان للجزم:
- تكونوا: فعل الشرط، مجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة.
- يأتِ: جواب الشرط، مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة (الياء).
وفي مثال آخر يوضح الفرق بين لام التعليل (الناصبة) ولام الأمر (الخازمة)، وردت الآية: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: 282]. اللام هنا هي لام الأمر الجازمة، والفعل "يتقِ" مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة (الياء).
الخاتمة
ختاماً، يتضح لنا من خلال استقراء نصوص الصور المدرسية أن "جزم الفعل المضارع" ليس مجرد قاعدة نحوية جامدة، بل هو نظام دقيق يربط بين المعنى والمبنى. فمن خلال الأدوات، نتحكم في زمن الفعل ومعناه (نفي، نهي، شرط)، ومن خلال العلامات (السكون، حذف حرف العلة، حذف النون)، نعكس بنية الفعل وحالته.
إن التمييز بين السكون الذي يُحرك للكسر، وحذف حرف العلة الذي يترك أثراً صوتياً (حركة قصيرة)، وحذف النون الذي يغير بنية الكلمة، هو جوهر الفهم العميق للنص القرآني ولغتنا العربية الجميلة، كما عرضها المنهج الدراسي بوضوح وتفصيل.