يُعد باب نصب الفعل المضارع من أهم الأبواب النحوية التي تبرز مرونة اللغة العربية ودقة تعبيرها. فالفعل المضارع، الذي عرفناه في الدروس السابقة بأنه يدل على حدث في زمن الحال أو الاستقبال، وعلمنا أن حالته الأصلية هي الرفع، يتخلى عن هذه الحالة وعن علامة الضمة بمجرد أن يسبقه عامل خارجي يسمى "الناصب". هذا التغير ليس مجرد تغير شكلي في حركة الحرف الأخير، بل هو تغير في وظيفة الفعل وزمنه وسياقه داخل الجملة.
 |
| نصب الفعل المضارع بسهولة مع شرح مبسّط |
سنقوم في هذا المقال باستعراض شامل لأدوات النصب، وشروط عملها، والعلامات الإعرابية التي تظهر على الفعل المضارع عند نصبه، سواء كانت علامات ظاهرة أو مقدرة أو فرعية.
التحول من الرفع إلى النصب: المفهوم والأدوات
ينتقل الفعل المضارع من حالة الرفع إلى حالة النصب إذا سُبق بإحدى أدوات النصب المحددة في المنهج الدراسي. هذه الأدوات تعمل كإشارات مرور تجبر الفعل على تغيير حركته الإعرابية. وقد عددت نصوص الصور هذه الأدوات في سياق سردي متتابع، وهي تشمل مجموعة متنوعة من الحروف التي تؤدي معاني مختلفة.
تتصدر هذه الأدوات أنْ، وهي حرف مصدري ونصب، وتُعد "أم الباب" لأنها الأكثر استخداماً، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾، حيث دخلت "أن" على الفعل "يتوب" فنصبته. تليها الأداة "لن"، وهي حرف يفيد النفي والاستقبال، أي أنها تنفي وقوع الفعل في المستقبل نفياً قاطعاً، ومثالها القرآني: ﴿لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾. ومن الأدوات التي تفيد التعليل وتوضيح السبب نجد "كي"، و"لام التعليل"، وكلاهما يربط ما قبله بما بعده بعلاقة سببية، مثل قوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، حيث نصبت اللام الفعل "تبين".
ولم يقتصر الكتاب على هذه الأدوات الأساسية، بل توسع ليشرح أدوات أخرى ذات شروط خاصة، مثل "لام الجحود"، و"حتى"، و"فاء السببية"، وسنتناولها بشيء من التفصيل في الفقرات التالية نظراً لأهميتها البلاغية والنحوية.
الشروط الخاصة لبعض أدوات النصب
بينما تعمل "أن" و"لن" و"كي" بلا شروط معقدة، نجد أن بعض الأدوات تتطلب سياقاً خاصاً لكي تمارس عملها في النصب. أول هذه الأدوات هي "لام الجحود". وبحسب التعريف الدقيق الوارد في الصور، فإن هذه اللام تفيد الإنكار الشديد، ولكن شرط إعمالها هو أن تكون مسبوقة بـ "كون منفي"، أي بعبارة (ما كان) أو (لم يكن). وقد استشهد الكتاب على ذلك بالآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾. هنا، لا يمكن اعتبار اللام لام تعليل عادية، بل هي لام جحود لأنها سُبقت بـ "ما كان"، مما أعطى المعنى قوة في نفي التعذيب.
الأداة الثانية التي ذكرها المنهج هي "حتى"، وهي حرف يفيد الغاية أو التعليل، وتنصب الفعل المضارع بعدها، كما في المثال القرآني: ﴿حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ﴾، فالفعل "يرجع" منصوب بـ "حتى" وعلامة نصبه الفتحة. وأخيراً، نجد "فاء السببية"، وهي الفاء التي تفيد أن ما قبلها سبب لما بعدها. وقد أوضحت النصوص شرطاً لعملها وهو أن تُسبق بنفي أو طلب، ومثال ذلك من الشواهد: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، فالفعل "أفوز" نُصب بفاء السببية التي سُبقت بطلب (تمني) في قوله "يا ليتني".
علامات نصب الفعل المضارع
بعد التعرف على الأدوات، ننتقل إلى الشق الثاني من المعادلة: كيف تظهر علامة النصب على الفعل؟ يظن البعض أن "الفتحة" هي العلامة الوحيدة، ولكن النصوص المرفقة في الصور (خاصة المخططات الشجرية في شرح علامات النصب) فصلت الأمر إلى ثلاث حالات دقيقة تعتمد كلياً على نوع الحرف الأخير في الفعل.
أولاً: الفتحة الظاهرة (للصحيح والمعتل بالواو والياء)
العلامة الأولى والأصلية هي الفتحة الظاهرة. وبخلاف حالة الرفع التي لا تظهر فيها الحركة إلا على الصحيح، فإن حالة النصب تتميز بـ "الخفة"، مما يسمح بظهور الفتحة في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان الفعل صحيح الآخر، أي لا ينتهي بحرف علة. ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾. الفعل "يتوب" صحيح الآخر (ينتهي بالباء)، فظهرت الفتحة بوضوح.
الحالة الثانية: وهذه نقطة دقيقة ركز عليها الكتاب، وهي إذا كان الفعل معتل الآخر بالواو أو الياء. فعلى الرغم من أنهما حرفا علة، إلا أن الفتحة تظهر عليهما لخفتها.
- مثال المعتل بالواو: ﴿لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا﴾ [الكهف: 14]. لاحظ أن الفعل "ندعو" رُسمت فوق واوه فتحة ظاهرة.
- مثال المعتل بالياء: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: 42]. الفعل "يقضي" ظهرت الفتحة على الياء بوضوح.
ثانياً: الفتحة المقدرة (للمعتل بالألف فقط)
العلامة الثانية هي الفتحة المقدرة. وتنحصر هذه العلامة في حالة واحدة فقط ذكرها الكتاب: "إذا كان الفعل المضارع معتل الآخر بالألف". في هذه الحالة، يستحيل نطق الفتحة فوق الألف (للتعذر)، فتُقدر الحركة في الذهن.
الشاهد القرآني الذي أورده المنهج لتوضيح هذه الحالة هو قوله تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ﴾ [البقرة: 120]. عند إعراب الفعل "ترضى" في هذه الآية، نقول: فعل مضارع منصوب بـ "لن" وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر. هذا التفريق بين المعتل بالألف (مقدرة) والمعتل بالواو والياء (ظاهرة) هو من أدق القواعد التي شدد عليها المنهج.
ثالثاً: حذف النون (العلامة الفرعية)
العلامة الثالثة والأخيرة للنصب هي علامة فرعية تختص بنوع محدد من الأفعال، وهي الأفعال الخمسة. وكما عرفنا سابقاً من الصور، الأفعال الخمسة هي كل مضارع اتصلت به واو الجماعة أو ألف الاثنين أو ياء المخاطبة. عندما يدخل الناصب على هذه الأفعال، تسقط "النون" التي كانت علامة للرفع، ويحل محلها "حذف النون" كعلامة للنصب.
وقد زخرت الصور بالأمثلة القرآنية الدالة على ذلك. ففي قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92]، نجد فعلين منصوبين:
- "تنالوا": فعل مضارع منصوب بـ "لن" وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة فاعل.
- "تنفقوا": فعل مضارع منصوب بـ "حتى" وعلامة نصبه حذف النون أيضاً.
ومثال آخر يوضح اتصال الفعل بألف الاثنين: ﴿أَنْ يَتُوبَا﴾، أو ياء المخاطبة: ﴿لَنْ تَفْعَلِي﴾.
تطبيقات إعرابية شاملة من الكتاب
لترسيخ هذه القواعد، دعونا نتأمل بعض النماذج الإعرابية التي وردت في صفحات التدريبات. في الآية الكريمة: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ [القصص: 13]، نجد الشاهد في موضعين:
- الفعل "تقرَّ": سُبق بالأداة "كي"، وهو فعل صحيح الآخر (راء)، فجاء منصوباً بالفتحة الظاهرة.
- الفعل "تحزنَ": معطوف على منصوب، وهو صحيح الآخر، فجاء أيضاً منصوباً بالفتحة الظاهرة.
وفي مثال آخر يجمع بين النصب والنفي: ﴿لَن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: 51]. الفعل "يصيب" صحيح الآخر، فنُصب بالفتحة الظاهرة بعد "لن".
أما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا﴾ [المائدة: 24]، فالفعل "ندخلَ" منصوب بـ "لن" وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
الخاتمة: جوهر النصب في السياق القرآني
ختاماً، يتضح لنا أن "نصب الفعل المضارع" هو نظام لغوي متكامل يعتمد على دقة الملاحظة. فالأمر يبدأ بتحديد "الأداة" التي سبقت الفعل (سواء كانت "لن" النافية للمستقبل، أو "لام الجحود" المؤكدة للنفي، أو "كي" التعليلية)، وينتهي بتحديد "بنية الفعل" لمعرفة العلامة المناسبة.
إن إدراك الفروق الدقيقة بين الفتحة الظاهرة التي تظهر على الواو والياء، والفتحة المقدرة التي تختص بالألف، وعلامة حذف النون للأفعال الخمسة، هو السبيل القويم لفهم النص القرآني وتذوق بلاغته. فكل فتحة وكل حذف للنون في كتاب الله له دلالة وموضع لا يستقيم المعنى بدونه، وهذا ما حاولت نصوص الصور إيصاله للطالب من خلال الشواهد المتنوعة والقواعد المفصلة.