تتميز اللغة العربية بأساليبها البلاغية والنحوية التي تمنح المتحدث القدرة على تحديد المعنى بدقة متناهية. ومن بين هذه الأساليب التي لا غنى عنها لأي دارس للغة هو أسلوب التمييز. التمييز ليس مجرد وصف أو إضافة، بل هو "اسم نكرة" يأتي ليفك طلاسم ما قبله، سواء كان ذلك المبهم لفظاً مفرداً أو جملة كاملة.
![]() |
| التمييز في اللغة العربية: إزالة الإبهام عن المقادير والنسب (دليل شامل) |
يُعرف التمييز تعريفاً جامعاً بأنه: هو الاسم النكرة الفضلة الذي يُذكر لإزالة الإبهام عما قبله، أي لبيان المراد منه. هذا التعريف يضعنا أمام خصائص محددة؛ فالتمييز لا بد أن يكون اسماً، ونكرة (غالباً)، وفضلة (أي ليس ركناً أساسياً كالفاعل والمبتدأ، ولكنه ضروري للمعنى)، ووظيفته الجوهرية هي "التفسير والتوضيح".
في هذا المقال، سنقوم بتفكيك التمييز إلى نوعيه الرئيسيين (تمييز الذات/الملفوظ، وتمييز النسبة/الملحوظ)، ونستعرض بالتفصيل أحكام تمييز العدد والمقادير، وكيفية تحول التمييز من فاعل أو مفعول أو مبتدأ، مستشهدين بالآيات القرآنية.
النوع الأول: تمييز الذات (التمييز الملفوظ)
النوع الأول هو تمييز الذات، ويسمى أيضاً "التمييز الملفوظ". وسمي بهذا الاسم لأنه يزيل الإبهام عن لفظ مذكور ومحدد في الكلام، وهذا اللفظ غالباً ما يدل على مقدار أو عدد. وقد صنف هذا النوع إلى أربعة أقسام رئيسية:
1. تمييز العدد (الأعداد وكناياتها)
يحتل تمييز العدد مساحة واسعة في باب التمييز، حيث تختلف أحكام المعدود (التمييز) باختلاف العدد نفسه. وقد فصلت هذه الأحكام بدقة:
أ) الأعداد من 3 إلى 10:
يكون تمييزها "جمعاً مجروراً بالإضافة".
- شاهد قرآني: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ﴾ (هنا "من الطير" جار ومجرور، لنبحث عن مثال أوضح للتمييز المجرور).
- في قوله تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة: 7].
- ليالٍ: تمييز مجرور بالكسرة (لأن العدد 7).
- أيامٍ: تمييز مجرور بالكسرة (لأن العدد 8).
ب) الأعداد من 11 إلى 99:
يكون تمييزها "مفرداً منصوباً".
- شاهد قرآني: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ [يوسف: 4].
- كوكباً: تمييز منصوب بالفتحة (لأن العدد 11).
- ﴿إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ [ص: 23].
- نعجة: تمييز منصوب.
ج) الأعداد 100 و1000 ومضاعفاتها:
يكون تمييزها "مفرداً مجروراً".
- شاهد قرآني: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [العنكبوت: 14].
- سنةٍ: تمييز مجرور بالكسرة (بعد العدد 1000).
2. تمييز المقادير (الوزن، الكيل، المساحة)
يشمل هذا القسم الكلمات التي تدل على مقدار محدد، مثل "مثقال"، "ذرة"، "صاع". والاسم الذي يأتي بعدها ليوضح نوع هذا المقدار يُعرب تمييزاً.
وقد ذكر أن حكم التمييز هنا يجوز فيه ثلاثة أوجه: النصب، الجر بـ "من"، أو الجر بالإضافة.
- شاهد قرآني: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7].
- ذرةٍ: مضاف إليه (وهو في الأصل تمييز للمثقال).
- خيراً: تمييز لـ "مثقال ذرة" منصوب.
3. تمييز أشباه المقادير
وهي كلمات تدل على مقدار غير محدد بدقة معيارية، مثل: "ملء الأرض".
- شاهد قرآني: ﴿فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ [آل عمران: 91].
- ذهباً: تمييز منصوب بالفتحة، أزال الإبهام عن "ملء الأرض".
4. ما كان فرعاً للتمييز (النوع)
مثل: "خاتم حديداً" أو "باب ساجاً". (أشار إليه الكتاب ضمنياً في سياق المبهمات).
شاهد ايضا: العطف في اللغة العربية | شرح مبسّط مع أمثلة واضحة
النوع الثاني: تمييز النسبة (التمييز الملحوظ)
النوع الثاني هو تمييز النسبة، ويسمى "التمييز الملحوظ" لأنه لا يذكر بلفظه، بل يُلحظ من سياق الجملة. وظيفته هي إزالة الإبهام عن "الجملة" بأكملها، وليس عن لفظ واحد. وقد أوضحت المخططات أن هذا النوع غالباً ما يكون "محولاً" عن أصل آخر (فاعل، مفعول به، أو مبتدأ).
1. المحول عن الفاعل
هو في الأصل فاعل، ولكن تحول التركيب ليصبح تمييزاً لزيادة البلاغة.
- شاهد قرآني: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: 4].
- شيباً: تمييز منصوب.
- الأصل: "اشتعل شيبُ الرأس". (شيب: فاعل). عندما جعلنا "الرأس" هو الفاعل، احتجنا لكلمة توضح نوع الاشتعال، فجاءت "شيباً".
2. المحول عن المفعول به
- شاهد قرآني: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: 12].
- عيوناً: تمييز منصوب.
- الأصل: "فجرنا عيونَ الأرض". (عيون: مفعول به).
3. المحول عن المبتدأ
يقع هذا غالباً بعد اسم التفضيل (أفعل).
- شاهد قرآني: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: 34].
- مالاً: تمييز منصوب.
- نفراً: تمييز منصوب.
- الأصل: "مالي أكثر من مالك". (مالي: مبتدأ).
4. غير المحول (في أساليب المدح والتعجب)
قد يأتي التمييز الملحوظ غير محول في جمل المدح والذم والتعجب.
- في المدح/الذم: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50]. "بدلاً" تمييز.
- في التعجب: "أكرم به رجلاً".
- بعد كفى: ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 79]. "شهيداً" تمييز منصوب.
الحكم الإعرابي للتمييز
القاعدة العامة للتمييز هي "النصب"، خاصة في تمييز النسبة (الملحوظ) وتمييز الأعداد المركبة والعقود.
أما في تمييز المقادير وتمييز الأعداد المفردة والمائة، فقد يكون "مجروراً" (بالإضافة أو بحرف الجر)، ولكنه يظل في المعنى تمييزاً.
تطبيقات عملية
لترسيخ القواعد، دعونا نستعرض بعض النماذج من تدريبات على التمييز:
- في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109].
- مدداً: تمييز منصوب، أزال إبهام "بمثله".
- في قوله تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].
- رفيقاً: تمييز منصوب (محول عن فاعل: وحسُن رفيقُ أولئك).
- في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: 36].
- شهراً: تمييز منصوب (جاء بعد العدد 12).
- في قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
- تأويلاً: تمييز منصوب (جاء بعد اسم التفضيل "أحسن").
- في قوله تعالى: ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
- جميعاً: حال، ولكن في سياق "ذرعاً" في آية أخرى ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ [هود: 77]، "ذرعاً" تمييز محول.
خلاصة القواعد
يتضح من خلال استقراء النصوص أن التمييز هو أداة التوضيح الكبرى في النحو.
- إذا رأيت عدداً، فابحث عن معدوده لتعربه تمييزاً (مجروراً مع 3-10 و100، منصوباً مع 11-99).
- إذا رأيت مقداراً (كيل/وزن)، فالاسم بعده تمييز.
- إذا رأيت جملة غامضة النسبة (بعد "طاب"، "ازداد"، "اشتعل"، "أفعل التفضيل")، فالاسم النكرة المنصوب بعدها هو تمييز ملحوظ.
إن إتقان هذه المواضع يمنح القارئ قدرة فائقة على فهم دلالات الكم والكيف في النصوص القرآنية.
