تُعد علوم البلاغة العربية بحراً واسعاً من المعاني والدلالات التي تمنح الكلام قوةً وتأثيراً. ومن أبرز الأبواب التي تناولتها كتب البلاغة، باب الخبر والإنشاء. هذا الباب لا يكتفي بتصنيف الكلام إلى جمل مفيدة وغير مفيدة، بل يغوص في عمق النسبة الكلامية وعلاقتها بالواقع الخارجي. إن فهم الفرق بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي هو الخطوة الأولى لتذوق النصوص الأدبية وفهم بلاغة القرآن الكريم والشعر العربي الأصيل.
![]() |
| الخبر والإنشاء في البلاغة العربية: المفهوم، الأساليب، والأغراض البلاغية |
في هذا المقال التفصيلي، سنستعرض مفهوم الخبر والإنشاء، والفرق الجوهري بينهما من حيث الصدق والكذب، ثم ننتقل لتحليل الأغراض البلاغية التي يخرج إليها الخبر عن مقتضى الظاهر، مستشهدين بالأبيات الشعرية والآيات القرآنية التي وردت في النصوص.
أولاً: المفهوم الجوهري للخبر والإنشاء
يجمع أهل البيان والبلاغة على أن الكلام في لغتنا العربية لا يخرج عن قالبين رئيسيين: إما أن يكون خبراً، وإما أن يكون إنشاءً. وقد وضع الكتب تعريفاً دقيقاً لكل منهما يفكك الاشتباك بين المصطلحات.
1. أسلوب الإخبار (الخبر):
يُعرف الخبر بأنه كل كلام يدخله التصديق والتكذيب. المعيار هنا هو الواقع الخارجي؛ فإذا كانت "النسبة الكلامية" المفهومة من النص تتطابق مع ما هو موجود في الواقع، كان الخبر صادقاً. وإذا خالفت هذه النسبة الواقع، كان الخبر كاذباً.
وقد استشهد النص ببيت لأبي إسحاق الغزّي لتوضيح الخبر الصادق الذي يصف واقعاً ممدوحاً:
لولا أبو الطيب الكندي ما امتلأت ... مسامع الناس من مدح ابن حمدان
هنا، يخبرنا الشاعر بواقعة محددة تتعلق بشهرة المتنبي (أبو الطيب) ومدحه لسيف الدولة (ابن حمدان). هذا الكلام يحتمل أن نصدقه أو نكذبه بناءً على التاريخ، لذا فهو "خبر".
وكذلك قول أبي العتاهية في ذم البخل:
إن البخيل وإن أفاد غنى ... لترى عليه مخايل الفقر
هذا وصف لواقع البخيل، وهو كلام يحتمل الصدق والكذب، فهو خبر.
2. أسلوب الإنشاء:
على النقيض تماماً، يأتي أسلوب الإنشاء، وهو الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب لذاته، لأنه لا يصف واقعاً موجوداً، بل "يُنشئ" واقعاً جديداً أو يطلب حدوث شيء.
وقد عددت النصوص أنواع الإنشاء، ومنها:
- الاستفهام: مثل قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾. هنا لا يخبرنا الله بشيء لنصدقه، بل يطلب منا الشكر.
- النداء والأمر: مثل قول بعض الحكماء لابنه: "يا بني، تعلّم حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث".
- النهي: مثل ما أوصى به عبد الله بن عباس رجلاً: "لا تتكلم بما لا يَعنيك".
هذه الأساليب (الأمر، النهي، الاستفهام، النداء) تسمى إنشاءً لأنها لا تحتمل أن نقول لقائلها "أنت كاذب"، فهو يطلب أو ينادي ولا يخبر.
ثانياً: أغراض الخبر (لماذا نخبر؟)
قد يظن البعض أن الهدف الوحيد من "الخبر" هو نقل معلومة يجهلها المخاطب، ولكن البلاغة العربية تذهب لأبعد من ذلك. فقد قسمت النصوص أغراض إلقاء الخبر إلى غرضين أصليين، ثم أغراض بلاغية فرعية تخرج عن الأصل.
الأغراض الأصلية للخبر:
- فائدة الخبر: وهو إفادة المخاطب بالحكم الذي تضمنته الجملة. أي أن المتكلم يريد إخبار السامع بشيء لا يعرفه.
- مثال قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه". هنا يخبرنا عمر بمكانة الشعر عند العرب، وهذه معلومة جديدة للمخاطب.
- لازم الفائدة: وهو إفادة المخاطب بأن المتكلم "يعلم" الحكم. أي أنك لا تخبره بالمعلومة (لأنه يعرفها)، بل تخبره بأنك تعرفها مثله.
- مثال: قول ابن رشيق: "وأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾...".
الأغراض البلاغية (خروج الخبر عن مقتضى الظاهر):
في كثير من الأحيان، يلقي المتكلم الخبر ليس لغرض الإعلام ولا لإثبات علمه، بل لأغراض بلاغية ونفسية دقيقة تفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال. وقد فصلت النصوص هذه الأغراض بشكل رائع:
1. الاسترحام والاستعطاف:
قد يأتي الخبر في صورة وصف للحال، ولكن الهدف الحقيقي هو طلب الرحمة والعطف. ومن أروع الأمثلة التي ساقها الكتاب قول يحيى البرمكي يستعطف الرشيد:
إن البرامكة الذين ... رُموا لديك بداهية
صُفر الوجوه عليهم ... خِلع المذلة بادية
هنا، يحيى لا يخبر الرشيد بأن وجوه البرامكة مصفرة (لأن الرشيد يعلم ذلك)، بل يسترحمه ويطلب عفوه من خلال تصوير حالهم البائسة.
2. إظهار الضعف والخشوع:
قد يخبر الإنسان عن واقعه ليعلن ضعفه وافتقاره إلى الله، لا ليعلم الله بحاله (حاشا لله).
- المثال القرآني: قوله تعالى على لسان زكريا عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾.
زكريا هنا لا يخبر الله بأنه كبر، فالله أعلم به، ولكنه يظهر ضعفه وعجزه تمهيداً لطلب الولد.
3. إظهار الأسى والحسرة:
يستخدم الخبر أيضاً للتعبير عن الألم النفسي لفقد محبوب أو ضياع فرصة.
- المثال القرآني: قوله تعالى عن أم مريم حين وضعتها أنثى وكانت ترجو ذكراً لخدمة المعبد: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ﴾.
هي لا تخبر الله بجنس المولود، بل تظهر تحسرها لأن الأنثى لا تصلح لما نذرته من خدمة المعبد كما يصلح الذكر. - ومن الشعر، قول الشاعر يرثي ولده:
ولقد دعوت الصبر بعدك والأسى ... فأجابني الأسى طوعاً ولم يجب الصبر
4. الفخر:
يخرج الخبر كثيراً إلى غرض الفخر، حيث يعدد المتكلم صفاته أو صفات قومه للاعتزاز لا للإعلام.
- مثال من شعر عمرو بن كلثوم (المعلقات):
وإذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا
هو لا يخبرنا بمعلومة علمية عن أطفالهم، بل يفخر بقوة قبيلته وعزتها التي تذل لها الجبابرة.
- ومثل قول جرير يهجو الأخطل ويفخر بقومه:
إن الذي حرم المكارم تغلبا ... جعل النبوة والخلافة فينا
5. النصح والإرشاد:
يستخدم الخبر لتقديم حكمة أو موعظة في قالب تقريري.
- مثال: ما كتبه طاهر بن الحسين لابنه عبد الله يوصيه:
"وليس أخو الحاجات من بات نائما ... ولكن أخوها من يبيت على وجل"
هذه الجملة الخبرية تحمل في طياتها أمراً ضمنياً: "كن يقظاً واهتم بحاجاتك".
- ومثل قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
6. التوبيخ:
يأتي الخبر لتأنيب المخاطب على فعل قام به.
- مثال: قولنا لمن يعق والديه: "هما والداك". أنت لا تخبره بنسبهما، بل توبخه كأنك تقول: "كيف تؤذيهما وهما أصلا وجودك؟".
ثالثاً: أضرب الخبر (مؤكدات الكلام)
لم تغفل النصوص الإشارة إلى أن الخبر لا يلقى على وتيرة واحدة، بل يختلف باختلاف حال المخاطب. هذا ما يعرف في البلاغة بـ "أضرب الخبر":
- الضرب الابتدائي: إذا كان المخاطب "خالي الذهن" من الحكم، يلقى إليه الخبر خالياً من التوكيد. (مثال: "محمد مسافر").
- الضرب الطلبي: إذا كان المخاطب "متردداً" أو شاكاً، يحسن توكيد الخبر بمؤكد واحد لإزالة الشك. (مثال: "إن محمد مسافر").
- الضرب الإنكاري: إذا كان المخاطب "منكراً" للحكم، يجب توكيد الخبر بأكثر من مؤكد. (مثال: "والله إن محمداً لمسافر").
وقد أشارت النصوص في قسم أساليب الإخبار إلى هذا المعنى من خلال الحديث عن التطابق مع الواقع، واستخدام أدوات التوكيد مثل "إن" و"القسم" في سياقات مختلفة لتعزيز المعنى.
ختاماً، يتضح من خلال النصوص التعليمية أن الخبر والإنشاء هما قطبان يدور حولهما البيان العربي. فالخبر يربطنا بالواقع أو يعبر عن مكنونات النفس من فخر وحسرة واستعطاف، بينما الإنشاء يفتح باب الطلب والتواصل المباشر. إن فهم هذه الأغراض هو المفتاح الحقيقي لتذوق جماليات اللغة العربية وفهم أسرار البلاغة في النصوص الأدبية والقرآنية.
