في عالم البلاغة العربية الرحب، يبرز الأسلوب الإنشائي غير الطلبي كأحد الفنون القولية التي تتجاوز مجرد نقل الأخبار أو طلب حدوث الأشياء، لتصل إلى مرحلة "إيجاد" المعاني والمشاعر وتثبيتها في ذهن المتلقي لحظة النطق بها. فإذا كان الإنشاء الطلبي (كالأمر والنهي) يستدعي مطلوباً غير حاصل، فإن الإنشاء غير الطلبي هو صياغة كلامية توجد المعنى المقصود بمجرد التلفظ به، وهو بذلك يمثل أداة تعبيرية قوية تستخدم لإظهار الانفعالات النفسية العميقة كالإعجاب، والمدح، والذم، والرجاء، والقسم، دون أن يحتمل الكلام الصدق أو الكذب لذاته.
![]() |
| الأسلوب الإنشائي غير الطلبي | شرح سهل مع أمثلة |
سنغوص في هذا المقال في أعماق الأسلوب الإنشائي غير الطلبي، محللين صيغه المتنوعة وأسراره البلاغية، ومستندين إلى الدقائق اللغوية التي فصلها علماء العربية في باب "الإنشاء" وما يرتبط به من مباحث المدح والذم والتعجب، لنكشف كيف تتحول اللغة من وسيلة تواصل إلى أداة لترسيخ المواقف الشعورية والفكرية.
ماهية الإنشاء غير الطلبي وفلسفته
يقسم البلاغيون الكلام العربي إلى "خبر" و"إنشاء". وبينما يدور الخبر في فلك الاحتمال (الصدق والكذب)، يأتي الإنشاء ليحسم الموقف بإيجاد مدلوله في الواقع. وينقسم هذا الإنشاء بدوره إلى قسمين: طلبي، وغير طلبي. ما يعنينا هنا هو القسم الثاني، الإنشاء غير الطلبي، والذي يتميز بأنه لا يستدعي مطلوباً وقت الطلب. إنه تعبير عن حالة وجدانية أو حكم قيمي يقع ويتحقق بمجرد النطق بالعبارة.
تكمن الأهمية القصوى لهذا الأسلوب في قدرته على تحويل المشاعر الداخلية (كالدهشة أو التقدير أو الاحتقار) إلى تراكيب لغوية راسخة لها حكم القواعد الثابتة. فعندما نقول "ما أجمل السماء"، نحن لا نخبر عن جمالها خبراً يحتمل النقاش، بل ننشئ "تعجباً" يثبت هذه الصفة ويفصح عن انفعالنا بها في التو واللحظة.
صيغ الإنشاء غير الطلبي وأدواته
تتعدد الصيغ التي يظهر فيها الأسلوب الإنشائي غير الطلبي، ولعل من أبرزها وأكثرها تداولاً في التراث البلاغي والنحوي ما يلي:
1. صيغ المدح والذم (نعم وبئس)
يُعد أسلوب المدح والذم من أوضح صور الإنشاء غير الطلبي. يعتمد هذا الأسلوب بشكل رئيسي على فعلين جامدين هما "نِعْمَ" للمدح و"بِئْسَ" للذم. والسر البلاغي في جمود هذين الفعلين هو تجريد الكلمة من دلالتها الزمنية المقيدة، وجعلها دالة على إنشاء المدح أو الذم بشكل مطلق وشامل.
في التحليل الدقيق لهذين الفعلين، نجد أن العرب استخدمتهما لإنشاء المدح العام أو الذم العام، ثم تخصيص الممدوح أو المذموم بالذكر. فقولنا "نعم الرجلُ زيدٌ"، يتضمن إنشاءً للمدح يشمل جنس الرجال ثم يخص "زيداً" بهذا المدح، مما يعطي الكلام قوة وتوكيداً لا يحققه الخبر العادي.
وقد ثار خلاف لغوي عميق حول طبيعة هذه الكلمات؛ هل هي أفعال ماضية أم أسماء؟ والراجح لدى المحققين من البلاغيين والنحاة أنها أفعال ماضية تضمنت معنى الإنشاء، فسلبت منها الدلالة على الزمن المعين لتفيد المبالغة في المدح أو الذم، وكأن الصفة أصبحت سجية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان.
2. أسلوب التعجب
التعجب هو انفعال النفس عند شعورها بأمر خفي سببه أو عظم قدره، وللتعبير عن هذه الحالة الشعورية، وضعت العرب صيغاً قياسية للإنشاء غير الطلبي، أشهرها:
- ما أفعله: مثل "ما أحسنَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا".
- أفْعِل به: مثل "أسمِع بهم وأبصِر".
في صيغة "ما أحسن زيداً"، يرى المحققون أن "ما" هنا نكرة تامة بمعنى "شيء"، وهي في محل رفع مبتدأ، والجملة بعدها خبر. والمعنى البلاغي العميق هو: "شيءٌ عظيم صير زيداً حسناً". هذا التركيب لا يهدف للإخبار عن حسن زيد، بل لإنشاء حالة من الانبهار بهذا الحسن. إنها محاولة لقولبة الشعور الداخلي في قالب لغوي محدد ينقل العدوى الشعورية للمخاطب.
وقد اختلف في أصل هذه الصيغ، هل هي أسماء أم أفعال؟ إلا أن الدلالة البلاغية تتجه إلى أن العرب صاغوها بهذا الشكل الجامد لتدل على إنشاء التعجب المحض، قاطعين النظر عن الزمن، ليكون التركيز منصباً بالكامل على إثبات الصفة والمبالغة فيها.
3. القَسَم (اليمين)
القسم هو من أساليب الإنشاء غير الطلبي التي تستخدم لتوكيد الكلام وربط المعاني بمقدسات أو عظائم لترسيخها في النفس. أدواته المشهورة هي الواو، والباء، والتاء (واللهِ، باللهِ، تاللهِ). القسم في جوهره إنشاء؛ لأن المقسم لا يخبر عن وقوع القسم، بل يوقعه بلفظه.
والقسم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بباب التوكيد؛ فالنفس البشرية قد تحتاج إلى ما يزيل عنها الشك أو الإنكار، فيأتي القسم "إنشاءً" لعقد العزم أو تأكيد الخبر. وقد توسعت العرب في القسم حتى استخدمت صيغاً مثل "لعمري" (أي وحياتي وبقائي)، وهي صيغة إنشائية تفيد القسم وتستخدم لتعظيم المقسم به (العمر) وتأكيد المقسم عليه.
4. أفعال الرجاء
من صيغ الإنشاء غير الطلبي استخدام أفعال الرجاء مثل "عسى"، "حَرَى"، و"اخْلَوْلَقَ". هذه الأفعال تدل على إنشاء توقع حصول الأمر المحبوب في المستقبل. حين يقول القائل: "عسى الكرب أن ينجلي"، فهو لا يطلب من أحد إزالة الكرب (طلب مباشر)، ولا يخبر عن زواله (خبر)، بل ينشئ حالة من الرجاء والتوقع الإيجابي.
الفرق الدقيق بين "الرجاء" (في عسى) و"التمني" (في ليت) هو أن الرجاء يكون في الممكنات المرغوبة المتوقعة الحصول، بينما التمني (الذي يلحق بالإنشاء الطلبي غالباً) يكون في المستحيلات أو ما يعسر مناله. ولكن "عسى" تصنف ضمن الإنشاء غير الطلبي لأنها تبرز الحالة النفسية للمتكلم (الترجي) دون توجيه طلب مباشر لمخاطب معين للفعل.
الخبر اللفظي.. الإنشائي المعنى
من ألطف مباحث الأسلوب الإنشائي غير الطلبي ما يعرف بـ "الخبري لفظاً، الإنشائي معنى". هذا النوع يمثل جسراً بديعاً بين الخبر والإنشاء، حيث تكون الجملة في ظاهرها وتركيبها النحوي جملة خبرية (فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر)، لكن معناها ومقصودها هو الإنشاء (الدعاء غالباً).
من أمثلة ذلك:
- الدعاء: كقولنا "رحمه الله" أو "رضي الله عنه". فظاهر الكلام إخبار بأن الله قد رحمه، لكن المعنى هو طلب الرحمة والدعاء له بها (اللهم ارحمه).
- إظهار التفاؤل: كقولنا للمريض "شفاك الله"، بصيغة الماضي، تفاؤلاً بتحقق الشفاء وكأنه قد وقع وانتهى.
- إظهار الضعف أو التحسر: كما في قوله تعالى على لسان امرأة عمران: "رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ". هي تعلم أن الله يعلم، ولا تخبره، بل تنشئ حسرة واعتذاراً.
- المدح والتعظيم: مثل قولنا "هو البدر" أو "هو البحر". هذا ليس مجرد إخبار، بل إنشاء لصورة خيالية تعظيمية.
هذا التحول من الخبر إلى الإنشاء يعكس مرونة اللغة العربية، وقدرة المتكلم البليغ على تطويع التراكيب لخدمة أغراضه النفسية. فاستخدام صيغة الماضي في الدعاء "غفر الله له" أبلغ من الأمر "اللهم اغفر له"؛ لأنه يوحي بأن المغفرة أمر محقق الوقوع تفضلاً من الله، فكأنه يخبر عن شيء قد تم.
القيم الجمالية للإنشاء غير الطلبي
إن استخدام الأسلوب الإنشائي غير الطلبي يضفي على النص الأدبي والخطاب البليغ حيوية خاصة. فهو يكسر رتابة السرد الخبري، ويشرك المتلقي في وجدان المتكلم. حين يتعجب المتكلم، فهو يدعو السامع لمشاركته الدهشة. وحين يمدح بـ "نعم"، فهو يرسخ قيمة أخلاقية ويدعو للاقتداء بها.
علاوة على ذلك، يمثل هذا الأسلوب أداة توكيد فعالة. فصيغ المدح والذم، والقسم، والتعجب، كلها تحمل في طياتها طاقة توكيدية عالية تفوق مجرد الوصف العادي. فقولنا "نعم القائد خالد" أثبت وأقوى وأخلد في النفس من قولنا "خالد قائد جيد"؛ لأن الأولى رفعت "خالداً" ليكون معياراً للمدح في جنس القادة.
خاتمة
ختاماً، يمثل الأسلوب الإنشائي غير الطلبي جانباً مشرقاً من جوانب علم المعاني، يُظهر كيف يمكن للغة أن تكون فعلاً لا مجرد قول. إنه الأسلوب الذي يتيح للإنسان أن يوثق عهوده بالقسم، ويعلن مبادئه بالمدح والذم، ويبوح بدهشته بالتعجب، ويبث أمله بالرجاء. إن فهم هذه الصيغ ودلالاتها ليس ترفاً لغوياً، بل هو ضرورة لتذوق النصوص الراقية وفهم مقاصد البلغاء في كلامهم، حيث يتجاوز المعنى حدود اللفظ ليلامس شغاف القلوب وحقائق العقول.
