بعد أن استعرضنا مفهوم التمييز بوصفه الأداة التي تزيل الإبهام والغموض عن الجمل، ننتقل في هذا المقال الفرعي لتسليط الضوء بدقة على النوع الأول والأكثر تحديداً من أنواع التمييز، وهو تمييز الذات. يُطلق النحاة على هذا النوع أيضاً اسم التمييز الملفوظ، والسبب في هذه التسمية دقيق جداً فهو لا يزيل الغموض عن "جملة" كاملة أو نسبة غامضة، بل يأتي ليفسر "لفظاً مفرداً" محدداً (ملفوظاً) في الجملة، هذا اللفظ يكون مبهماً في ذاته ولا يتضح المراد منه إلا بذكر التمييز بعده.
![]() |
| تمييز الذات في النحو | شرح سريع ومبسط |
ينحصر هذا النوع من التمييز في إزالة الإبهام عن أربعة أشياء رئيسية: الأعداد، المقادير (الوزن والكيل)، وما يشبه المقادير. وفي السطور التالية، سنفصل أحكام كل منها.
أولاً: تمييز العدد (القواعد الثلاث)
يحتل "تمييز العدد" المساحة الأكبر في باب تمييز الذات. فالأعداد في اللغة العربية مبهمة بطبيعتها؛ فعندما تقول "ثلاثة" أو "عشرون"، يظل الذهن متسائلاً: ثلاثة ماذا؟ (رجال، كتب، أيام؟). هنا يأتي التمييز ليحدد المعدود. وقد قسمت أحكام تمييز العدد إلى ثلاث فئات إعرابية تختلف باختلاف الرقم:
الفئة الأولى: من 3 إلى 10 (جمع مجرور)
الأعداد المحصورة بين الثلاثة والعشرة تتطلب أن يكون تمييزها (المعدود) بصيغة الجمع، وحكمه الإعرابي هو الجر (بالإضافة).
وقد استشهد على هذه القاعدة بالآية الكريمة التي تصف العذاب الذي نزل بقوم عاد: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة: 7].
عند تحليل هذه الآية، نجد أن العدد "سبع" تبعه المعدود "ليالٍ"، والعدد "ثمانية" تبعه المعدود "أيامٍ". ونلاحظ أن التمييز في الحالتين جاء "جمعاً" (ليال، أيام) وجاء "مجروراً" بالكسرة الظاهرة.
الفئة الثانية: من 11 إلى 99 (مفرد منصوب)
عندما يتجاوز العدد الرقم عشرة، وصولاً إلى التاسعة والتسعين، تتغير قاعدة التمييز جذرياً. هنا، يجب أن يكون التمييز مفرداً (ليس جمعاً) ومنصوباً (ليس مجروراً).
وتُعد قصة يوسف عليه السلام المرجع الأشهر لهذه القاعدة في قوله تعالى: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ [يوسف: 4].
العدد هو "أحد عشر"، والكلمة التي أزالت إبهامه هي "كوكباً". لاحظ أنها جاءت مفردة ومنصوبة بالفتحة.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ [ص: 23]. التمييز "نعجةً" جاء مفرداً منصوباً ليوضح العدد "تسع وتسعون".
الفئة الثالثة: المائة والألف ومضاعفاتها (مفرد مجرور)
أما الأعداد الكبيرة (100، 1000، مليون...)، فإن تمييزها يعود لحالة الجر، ولكنه يلزم الإفراد. فالقاعدة تقول: تمييز المائة والألف يكون مفرداً مجروراً.
ويتضح ذلك في قوله تعالى عن مدة لبث نوح في قومه: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [العنكبوت: 14].
العدد "ألف" تبعه التمييز "سنةٍ"، وهو مفرد مجرور بالكسرة.
ثانياً: تمييز المقادير (الوزن والكيل والمساحة)
النوع الثاني الذي يندرج تحت "تمييز الذات" هو الألفاظ الدالة على مقدار محدد ومعروف، مثل (مثقال، صاع، رطل، قيراط، ذراع). هذه الكلمات تسمى "مقادير"، وهي مبهمة إذا ذُكرت وحدها.
المثال القرآني الدقيق الذي أورده الكتاب هو قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7].
كلمة "مثقال" تدل على وزن، وكلمة "ذرة" مضاف إليه لبيان نوع الميزان، ولكن ماذا يوزن؟ الإجابة جاءت في كلمة "خيراً".
فكلمة "خيراً" هي تمييز منصوب أزال الإبهام عن مقدار "مثقال ذرة". ويشير الكتاب إلى مرونة إعرابية هنا، حيث يجوز في تمييز المقادير أن يُنصب (كما في الآية)، أو يُجر بحرف الجر "من" (مثقال ذرة من خيرٍ)، أو يُجر بالإضافة.
ثالثاً: تمييز أشباه المقادير
يلحق بالمقادير نوع يسمى "أشباه المقادير". وهي كلمات تدل على كمية ولكنها غير محددة بآلة قياس معيارية، مثل "ملء الكف" أو "ملء الأرض".
وقد استشهد بقوله تعالى: ﴿فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ [آل عمران: 91].
كلمة "ملء" هنا ليست كيلوجراماً ولا لتراً، بل هي مقدار تقديري (شبه مقدار). والكلمة التي ميزت هذا الملء وأزالت غموضه هي "ذهباً".
إعراب "ذهباً": تمييز منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، وهو يندرج تحت تمييز الذات لأنه فسر لفظاً مفرداً هو "ملء الأرض".
4. ما كان فرعاً للتمييز (النوع)
مثل: "خاتم حديداً" أو "باب ساجاً". (أشار إليه الكتاب ضمنياً في سياق المبهمات).
النوع الثاني: تمييز النسبة (التمييز الملحوظ)
النوع الثاني هو "تمييز النسبة"، ويسمى "التمييز الملحوظ" لأنه لا يذكر بلفظه، بل يُلحظ من سياق الجملة. وظيفته هي إزالة الإبهام عن "الجملة" بأكملها، وليس عن لفظ واحد. وقد أوضحت المخططات أن هذا النوع غالباً ما يكون "محولاً" عن أصل آخر (فاعل، مفعول به، أو مبتدأ).
1. المحول عن الفاعل
هو في الأصل فاعل، ولكن تحول التركيب ليصبح تمييزاً لزيادة البلاغة.
- شاهد قرآني: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: 4].
- شيباً: تمييز منصوب.
- الأصل: "اشتعل شيبُ الرأس". (شيب: فاعل). عندما جعلنا "الرأس" هو الفاعل، احتجنا لكلمة توضح نوع الاشتعال، فجاءت "شيباً".
2. المحول عن المفعول به
- شاهد قرآني: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: 12].
- عيوناً: تمييز منصوب.
- الأصل: "فجرنا عيونَ الأرض". (عيون: مفعول به).
3. المحول عن المبتدأ
يقع هذا غالباً بعد اسم التفضيل (أفعل).
- شاهد قرآني: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: 34].
- مالاً: تمييز منصوب.
- نفراً: تمييز منصوب.
- الأصل: "مالي أكثر من مالك". (مالي: مبتدأ).
4. غير المحول (في أساليب المدح والتعجب)
قد يأتي التمييز الملحوظ غير محول في جمل المدح والذم والتعجب.
- في المدح/الذم: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50]. "بدلاً" تمييز.
- في التعجب: "أكرم به رجلاً".
- بعد كفى: ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 79]. "شهيداً" تمييز منصوب.
الحكم الإعرابي للتمييز
القاعدة العامة للتمييز هي "النصب"، خاصة في تمييز النسبة (الملحوظ) وتمييز الأعداد المركبة والعقود.
أما في تمييز المقادير وتمييز الأعداد المفردة والمائة، فقد يكون "مجروراً" (بالإضافة أو بحرف الجر)، ولكنه يظل في المعنى تمييزاً.
تطبيقات عملية من تدريبات الكتاب
لترسيخ القواعد، دعونا نستعرض بعض النماذج من صفحة "تدريبات على التمييز" المرفقة:
- في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109].
- مدداً: تمييز منصوب، أزال إبهام "بمثله".
- في قوله تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].
- رفيقاً: تمييز منصوب (محول عن فاعل: وحسُن رفيقُ أولئك).
- في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: 36].
- شهراً: تمييز منصوب (جاء بعد العدد 12).
- في قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
- تأويلاً: تمييز منصوب (جاء بعد اسم التفضيل "أحسن").
- في قوله تعالى: ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
- جميعاً: حال، ولكن في سياق "ذرعاً" في آية أخرى ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ [هود: 77]، "ذرعاً" تمييز محول.
ختاماً، يتضح من خلال النصوص التعليمية أن "تمييز الذات" هو النظام اللغوي الذي يضبط الكميات في اللغة العربية. إنه "الميزان" الذي نزن به الكلام عندما يتعلق الأمر بالأرقام أو المكاييل. سواء كان التمييز يفك شفرة عدد (ليالٍ، كوكباً، سنةٍ)، أو يحدد ماهية وزن (مثقال ذرة خيراً)، أو يوضح سعة (ملء الأرض ذهباً)، فإنه يظل "تمييزاً ملفوظاً" لأنه يعالج غموض لفظة واحدة سبقته، مما يمنح النص دقة لا تحتمل التأويل.
.webp)