يعتبر أسلوب الأمر ركيزة أساسية من ركائز علم المعاني في البلاغة العربية، وهو البوابة التي ندلف منها لفهم كيفية توجيه الخطاب وتلوينه بحسب المقامات المختلفة. إن الباحث في جماليات اللغة العربية يدرك فوراً أن "الأمر" لا يتوقف عند حدوده النحوية الجافة المتمثلة في طلب الفعل، بل يتجاوزها ليصبح أداة طيعة في يد البليغ، يعبر بها عن مشاعر الود، أو الوعيد، أو التعجيز، أو الدعاء.
![]() |
| الدليل الشامل لفهم أسلوب الأمر في البلاغة العربية: صيغه وأغراضه البلاغية |
في هذا المقال المتعمق، سنغوص في تفاصيل أسلوب الأمر، بدءاً من صيغه اللغوية الأربع، وصولاً إلى الأغراض البلاغية الدقيقة التي تخرج به عن مقتضى الظاهر.
مفهوم أسلوب الأمر وموقعه في علم المعاني
يندرج أسلوب الأمر تحت قسم الإنشاء الطلبي، وهو الكلام الذي يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب. والأصل في الأمر عند أهل اللغة هو طلب الفعل من الأعلى (المتكلم) إلى الأدنى (المخاطب) على وجه الاستعلاء والإلزام. ولكن، سرعان ما تذوب هذه القاعدة الجامدة أمام حرارة السياق وسحر البيان، ليتحول الأمر من مجرد تكليف إلى رسائل عاطفية وفكرية متعددة الأبعاد.
الصيغ اللغوية الأربع لأسلوب الأمر
قبل الخوض في الأسرار البلاغية، يجب أن نؤسس للفهم اللغوي الصحيح من خلال استعراض الصيغ الأربع التي يأتي بها الأمر في اللغة العربية، كما وردت في أمهات الشواهد الفصحى:
1. فعل الأمر الصريح
وهي الصيغة الأصلية والأكثر شيوعاً، وتدل بذاتها على طلب الفعل. ومثال ذلك قولنا في سياق النصح أو التوجيه الديني والاجتماعي، مثل قوله تعالى في آيات المناسك، أو ما جاء في رسائل الخلفاء والبلغاء، كقول علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) في إحدى رسائله: "أقم للناس الحج". هنا جاء الفعل "أقم" بصيغة الأمر المباشرة للدلالة على التكليف.
2. الفعل المضارع المقرون بلام الأمر
في هذه الصيغة، ندخل "لام الأمر" الجازمة على الفعل المضارع، فتنقله من دلالة الحال أو الاستقبال إلى دلالة الطلب. ومن روائع الشواهد القرآنية قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. لاحظ كيف أضفت اللام على الفعلين (يوفوا، يطوفوا) معنى الأمر الملزم.
3. اسم فعل الأمر
وهي كلمات مبنية تؤدي معنى فعل الأمر وتعمل عمله، لكنها لا تقبل علاماته، وتتميز غالباً بالمبالغة في المعنى. ومن ذلك قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. فكلمة "عليكم" هنا ليست جاراً ومجروراً عادياً، بل هي اسم فعل أمر بمعنى "الزموا"، وهي أبلغ في الحث على لزوم إصلاح النفس.
4. المصدر النائب عن فعل الأمر
يستخدم العرب المصدر (المفعول المطلق) بدلاً من فعل الأمر للإيجاز والمبالغة وتأكيد الطلب، وكأنه أمر مفروغ منه. الشاهد الأشهر والأجمل هو قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، حيث جاء المصدر "إحساناً" نائباً عن فعل الأمر "أحسنوا"، ليعطي دلالة قوية على أن الإحسان للوالدين أمر مطلق لا جدال فيه.
خروج الأمر عن مقتضى الظاهر: الأغراض البلاغية
هنا يكمن سحر البلاغة. فكثيراً ما يستخدم المتكلم صيغ الأمر الأربع المذكورة أعلاه، ولكنه لا يقصد بها طلب الفعل حقيقةً ولا الاستعلاء، بل يقصد معانٍ أخرى تستفاد من سياق الكلام وقرائن الأحوال. ومن أبرز هذه الأغراض:
-
الدعاء:
عندما يصدر الأمر من الأدنى (العبد) إلى الأعلى (الخالق عز وجل)، يستحيل أن يكون معناه الإلزام، بل يتحول إلى تضرع ورجاء. مثل قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}، ومثل قولنا: "ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً". الصيغة هنا "اغفر" و"ارحم" هي صيغة أمر، لكن الغرض البلاغي هو الدعاء الخالص.
-
الالتماس:
ويكون عندما يوجه الكلام من شخص إلى نظيره المساوي له في الرتبة والمكانة. فلا يوجد استعلاء ولا خضوع، بل طلب مهذب. ومن أروع الأمثلة الشعرية قول امرئ القيس مخاطباً صاحبيه: "قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ". فالشاعر هنا لا يأمر صاحبيه أمراً عسكرياً، بل يلتمس منهما الوقوف لمشاركته الوجد.
-
التهديد:
قد تأتي صيغة الأمر والمراد بها التخويف والوعيد، خاصة عند الغضب أو في مقام العقاب. كقوله تعالى للكفار والمعاندين: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}. هذا ليس إذناً لهم بفعل ما يريدون، بل هو تهديد مبطن بأن عاقبة عملهم ستكون وخيمة، وكقول الشاعر للمتنبئ مهدداً: "أَزِلْ حَسَدَ الحُسَّادِ عَنِّي بِكَبْتِهِمْ...".
-
التعجيز:
يستخدم هذا الغرض عندما يطلب المتكلم من المخاطب أمراً يعلم يقيناً أنه غير قادر على فعله، وذلك لإظهار عجزه وضعفه. المثال القرآني الساطع هنا هو تحدي الله للمشركين: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}. الأمر هنا ليس لطلب الفعل، بل لإثبات استحالة قدرتهم على الإتيان بمثل القرآن.
-
التمني:
يخرج الأمر إلى التمني عندما يوجه الخطاب إلى ما لا يعقل، أو للمطالبة بشيء بعيد المنال. الشاعر هنا يبث شكواه للطبيعة، كما فعل امرؤ القيس مع الليل الطويل: "أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي... بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ". هو يأمر الليل بالاننجلاء، والليل لا يسمع ولا يطيع، فكان الغرض التمني.
-
الإباحة:
وتكون عندما يتوهم المخاطب أن شيئاً ما محظور عليه، فيأتي الأمر لرفع الحرج والإذن بالفعل. مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}. الأمر هنا "كلوا واشربوا" ليس للإلزام (فلا يجب على المرء أن يأكل طوال الليل)، بل لبيان أن الأكل مباح في ليالي الصيام.
-
التسوية:
وهو أن يستوي عند المتكلم وقوع الفعل أو عدمه، وغالباً ما يأتي في سياق العناد أو تحصيل الحاصل. كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا}، وكقول أبي الطيب المتنبي: "عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ... بَيْنَ طَعْنِ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ". الغرض هنا بيان أن النتيجة واحدة في الحالتين.
-
الامتنان:
عندما يكون الأمر في سياق تعديد النعم وتذكير المخاطب بفضل الله عليه. كقوله تعالى: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}. الأمر بالأكل هنا لتذكير العباد بنعمة الثمار والزروع التي سخرها الله لهم.
-
الإكرام:
قد يأتي الأمر للترحيب بالمخاطب وإشعاره بالأمان والكرامة. وأجمل مثال على ذلك قوله تعالى لأهل الجنة: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}. الأمر بالدخول هنا هو تشريف وتكريم لهم.
كيف نميز الغرض البلاغي؟
إن تحديد الغرض البلاغي للأمر يعتمد اعتماداً كلياً على "ذوق البلاغة" وفهم السياق. لا توجد قوالب جامدة، بل يجب على القارئ أو السامع أن يتأمل العلاقة بين المتكلم والمخاطب. هل هي علاقة خالق بمخلوق؟ (دعاء أو إلزام)، عدو بعدو؟ (تهديد أو تعجيز)، حبيب بحبيب؟ (التماس أو تمني). إن "القرينة" سواء كانت حالية (الموقف) أو مقالية (ألفاظ أخرى في الجملة) هي المفتاح لفك شفرة المعنى البلاغي.
جماليات أسلوب الأمر في الأدب العربي
يبرز جمال أسلوب الأمر في قدرته على نقل الانفعالات النفسية. حين يخرج الشاعر عن المألوف ويأمر الطيور أو الأطلال أو الليل، فإنه يبث الحياة في الجمادات، ويشرك الطبيعة في همومه. وحين يستخدم القرآن صيغ الأمر المتنوعة، فإنه يؤسس لتشريع دقيق يراعي الأحوال النفسية للمكلفين، فتارة يأتي باللين (الإباحة والامتنان)، وتارة بالشدة (التهديد والتعجيز) لردع المعاندين.
خلاصة القول: إن دراسة أسلوب الأمر تكشف لنا عن مرونة اللغة العربية وثراءها. فالأمر ليس مجرد عصا غليظة للتكليف، بل هو أداة فنية دقيقة تعزف على أوتار المعاني لتخرج لنا ألحان الدعاء والرجاء، والتهديد والتمني، في تناغم بديع بين اللفظ والمعنى.
