تُعد الجملة الفعلية في اللغة العربية مسرحاً للأحداث، حيث يلعب الفعل دور الحدث، والفاعل دور القائم به، ويأتي المفعول به ليكمل المشهد موضحاً مَن وقع عليه هذا الفعل. لا يمكننا فهم المعنى الكامل للجملة دون تحديد هذا الركن الذي يستقبل أثر الفعل، سواء كان هذا الركن ظاهراً بوضوح كاسم مستقل، أو مستتراً ومتصلاً كضمير.
 |
| المفعول به في اللغة العربية: تعريفه، صوره، وعلامات إعرابه |
في هذا الدليل الشامل، سنغوص في أعماق المفعول به، لنستكشف تعريفه الدقيق، والصورتين الرئيسيتين اللتين يأتي عليهما (الاسم الظاهر والضمير)، وكيفية تمييز علامات نصبه المختلفة بحسب نوع الكلمة، مدعومين بالشواهد القرآنية والأمثلة التطبيقية التي تزيل أي لبس وتوضح القواعد بجلاء.
المفهوم العام للمفعول به
يُعرف المفعول به بأنه: "الاسم المنصوب الذي يقع عليه الفعل". هذا التعريف المختصر يحمل في طياته شروطاً دقيقة؛ فهو أولاً "اسم" لا فعل ولا حرف، وهو ثانياً "منصوب" دائماً، فلا يأتي مرفوعاً ولا مجروراً، وهو ثالثاً "مستقبل للحدث".
وقد ضرب الكتاب مثالاً مبسطاً لتوضيح هذا المفهوم بجملة: "قرأتُ الكتابَ". عند تحليل هذه الجملة، نجد أن فعل القراءة (الحدث) قد وقع مباشرة على "الكتاب"، ولذلك سُمي مفعولاً به لأنه الذي قُرئ. وتتجلى أهمية هذا الركن في أنه يزيل الإبهام عن الفعل؛ فلو قلنا "قرأتُ" وسكتنا، لما عرف السامع ماذا قرأنا، ولكن بذكر المفعول به يتم المعنى.
الصورة الأولى: المفعول به كاسم ظاهر
يأتي المفعول به في صورته الأولى والأساسية كاسم ظاهر، أي كلمة مستقلة بذاتها في الجملة وليست ضميراً. وتشير النصوص إلى أن هذا الاسم الظاهر قد يأتي مفرداً، أو مثنى، أو جمعاً، وتختلف علامة نصبه باختلاف نوعه، وهو ما فصلته الصور من خلال الأمثلة القرآنية التالية:
1. النصب بالياء (جمع المذكر السالم):
في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 223]، نجد أن الفعل (بشّر) والفاعل (ضمير مستتر تقديره أنت) قد وقعا على "المؤمنين". وبما أن كلمة "المؤمنين" جمع مذكر سالم، فقد جاءت منصوبة وعلامة نصبها "الياء".
2. النصب بالفتحة الظاهرة (المفرد وجمع التكسير):
في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا﴾ [المرسلات: 25]، كلمة "الأرض" هي المفعول به لأن فعل الجعل وقع عليها، وعلامة نصبها الفتحة الظاهرة لأنها مفرد. وكذلك في قوله تعالى: ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ [طه: 2]، جاءت كلمة "القرآن" مفعولاً به منصوباً بالفتحة الظاهرة. وفي مثال آخر: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: 2]، كلمة "أثقالها" مفعول به منصوب بالفتحة، والهاء ضمير متصل في محل جر مضاف إليه.
3. النصب بالفتحة المقدرة (المعتل الآخر):
أشارت الصور إلى حالة دقيقة جداً، وهي عندما ينتهي الاسم الظاهر بحرف علة (الألف المقصورة)، مما يمنع ظهور الحركة. ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء: 60]. كلمة "فتى" هنا مفعول به للفعل "سمعنا"، ولكن علامة نصبه هي الفتحة المقدرة منع من ظهورها "التعذر" (أي استحالة نطق الحركة على الألف).
قاعدة هامة في ترتيب الجملة
من الملاحظات الجوهرية، أن المفعول به لا يشترط أن يأتي دائماً بعد الفاعل مباشرة. فقد يفصل بين الفعل والمفعول به كلمات أخرى، أو قد يتقدم المفعول به. القاعدة الذهبية هنا لاستخراجه هي: "ابحث عمن وقع عليه الفعل"، سواء جاء في آخر الجملة أو وسطها. فالعبرة بالمعنى والسياق لا بالترتيب المكاني فقط.
الصورة الثانية: المفعول به كضمير (متصل ومنفصل)
ينتقل بنا الأمر إلى الصورة الثانية للمفعول به، وهي عندما لا يأتي اسماً ظاهراً، بل "ضميراً". وقد قسم المنهج الضمائر التي تقع مفعولاً به إلى نوعين: ضمير متصل، وضمير منفصل.
أولاً: الضمير المتصل
هو الضمير الذي يتصل بآخر الفعل ولا يستقل بنفسه في النطق. ومن أشهر هذه الضمائر التي تقع في محل نصب مفعول به: (هاء الغيبة، كاف الخطاب، ونا المفعولين إذا وقع عليها الفعل، وياء المتكلم).
وقد زخرت الصور بالأمثلة القرآنية لتحليل هذا النوع:
- الكاف (كاف الخطاب): في قوله تعالى: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ﴾ [يوسف: 37]، الكاف في "يأتيكما" ضمير متصل في محل نصب مفعول به مقدم، لأن الإتيان وقع عليهما. وكذلك في ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ [النازعات: 42]، الكاف في "يسألونك" مفعول به.
- الهاء (هاء الغيبة): في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ [يوسف: 31]. الهاء في "رأينه" ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به، لأن الرؤية وقعت عليه (يوسف عليه السلام)، والفاعل هو نون النسوة.
- هم (لجمع الغائبين): في قوله تعالى: ﴿وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان: 54]. الضمير "هم" اتصل بالفعل "زوجنا"، وهو المفعول به لأن التزويج وقع عليهم، بينما "نا" هي الفاعل.
ثانياً: الضمير المنفصل
هو الضمير الذي يستقل بنفسه في النطق والكتابة، ويأتي غالباً قبل الفعل لإفادة التخصيص. وأشهر هذه الضمائر هي مجموعة "إيا" ومشتقاتها (إياي، إياك، إياه، إيانا، إياكم، إلخ).
وبحسب القاعدة الواردة في الصور، فإن هذه الضمائر: "تُعرب دائماً ضمير منفصل مبني في محل نصب مفعول به"، ويأتي بعدها فعل يتعلق بها.
من الشواهد القرآنية الواضحة على ذلك:
- ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: 5]: "إياك" ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم للفعل "نعبد".
- ﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ [يونس: 28]: "إيانا" ضمير منفصل مبني في محل نصب مفعول به مقدم للفعل "تعبدون".
- ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172]: "إياه" مفعول به مقدم.
تطبيقات عملية لاستخراج المفعول به
لترسيخ الفهم، دعونا نستعرض بعض النماذج من صفحة التدريبات المرفقة (الصورة الأخيرة)، لنطبق عليها القواعد السابقة:
المفعول به الظاهر:
في الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53]. كلمة "الذنوبَ" مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة، لأن فعل المغفرة وقع عليها.
في الآية: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ﴾ [الزخرف: 29]. اسم الإشارة "هؤلاء" مبني في محل نصب مفعول به.
في الآية: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [الرعد: 39]. الاسم الموصول "ما" مبني في محل نصب مفعول به.
المفعول به الضمير:
في الآية: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ [الضحى: 3]. الكاف في "ودعك" ضمير متصل في محل نصب مفعول به.
في الآية: ﴿وَآتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي﴾ [الحجر: 87]. الكاف في "آتيناك" هي المفعول به الأول.
في الآية: ﴿لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾ [الأحزاب: 33]. كلمة "الرجس" مفعول به ظاهر، وجاءت متأخرة عن الجار والمجرور.
الخاتمة
ختاماً، يتضح لنا من خلال استقراء نصوص الكتاب المدرسي أن "المفعول به" ركن أساسي لا غنى عنه في الجمل المتعدية. وسواء جاء اسماً ظاهراً يعرب بالحركات (الفتحة الظاهرة أو المقدرة) والحروف (الياء)، أو جاء ضميراً مبنياً (متصلاً أو منفصلاً)، فإن وظيفته تظل ثابتة وهي استقبال أثر الفعل. إن إتقان استخراج المفعول به وتحديد نوعه هو مفتاح أساسي لفهم دلالات الآيات القرآنية والنصوص العربية بدقة متناهية، وهو ما هدف هذا الشرح المفصل إلى تحقيقه بالاعتماد الكامل على المصادر الموثقة.