بعد أن تعرفنا في المقال السابق على تمييز الذات الذي يفك شفرة لفظة واحدة مبهمة (كالعدد أو الوزن)، ننتقل إلى مستوى لغوي أعلى وأكثر دقة، وهو تمييز النسبة. يُطلق النحاة على هذا النوع اسم التمييز الملحوظ؛ والسبب في هذه التسمية دقيق جداً، فهو لا يُذكر ليفسر لفظاً محدداً ملفوظاً قبله، بل يُلحظ من خلال سياق الجملة بأكملها. فالغموض هنا ليس في كلمة واحدة، بل في "النسبة" أو العلاقة بين ركني الجملة (المبتدأ والخبر، أو الفعل والفاعل)، فيأتي التمييز ليوضح الجهة المقصودة بهذه النسبة.
![]() |
| تمييز النسبة في النحو | شرح سهل وسريع |
ينقسم هذا النوع من التمييز إلى قسمين رئيسيين: تمييز محول عن أصل آخر، وتمييز "غير محول" يقع في أساليب محددة. وفي السطور التالية، سنفصل هذه الأنواع كما وردت في الشواهد القرآنية.
أولاً: التمييز المحول (أصل التراكيب)
أن أغلب حالات تمييز النسبة تكون في الأصل "محولة" عن موقع إعرابي آخر (فاعل، مفعول به، أو مبتدأ). وهذا يعني أن التمييز كان في أصل المعنى ركناً أساسياً، ثم تحول إلى تمييز لغرض بلاغي وهو زيادة التوضيح والبيان.
1. المحول عن الفاعل
في هذا النوع، يكون التمييز في أصل المعنى هو الفاعل للجملة.
المثال القرآني البليغ هو قوله تعالى على لسان زكريا عليه السلام: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: 4].
عند تأمل هذه الآية، نجد أن الفعل "اشتعل" نُسب إلى "الرأس". ولكن، هل الرأس كله اشتعل ناراً؟ الغموض هنا في نسبة الاشتعال للرأس. فجاءت كلمة "شيباً" تمييزاً منصوباً لتوضح أن الاشتعال يخص الشيب.
ويوضح أصل التركيب قبل التحويل، وهو: "اشتعل شيبُ الرأس". فكلمة "شيب" كانت فاعلاً، ثم حُولت لتصبح تمييزاً، وأصبحت كلمة "الرأس" هي الفاعل، لزيادة المبالغة وتصوير الرأس وكأنه كتلة من النور.
2. المحول عن المفعول به
هنا يكون التمييز في أصل التركيب "مفعولاً به".
والشاهد القرآني هو قوله تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: 12].
الجملة تتحدث عن تفجير الأرض، ولكن التفجير قد يكون للبراكين أو للألغام أو غيرها، فجاءت كلمة "عيوناً" تمييزاً منصوباً لتزيل هذا الإبهام وتحدد نوع التفجير.
وبالعودة إلى أصل المعنى كما أشار المنهج، التقدير هو: "فجرنا عيونَ الأرض". فكلمة "عيون" كانت مفعولاً به للفعل "فجر"، ثم تحولت إلى تمييز، وحلت "الأرض" محلها في الإعراب كمفعول به، لتفيد شمول التفجير للأرض كلها.
3. المحول عن المبتدأ
يقع هذا النوع غالباً في الجمل الاسمية التي تحتوي على اسم تفضيل (على وزن أفعل)، حيث يكون التمييز في الأصل "مبتدأ".
مثال من سورة الكهف: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: 34].
في قوله "أنا أكثر"، يظل المعنى غامضاً (أكثر علماً؟ طولاً؟ عمراً؟). فجاءت كلمة "مالاً" تمييزاً منصوباً لتحدد وجه الكثرة.
أصل الكلام قبل التحويل: "مالي أكثرُ من مالك". فكلمة "مال" كانت مبتدأ، ثم حُولت إلى تمييز بعد اسم التفضيل لتركيز المعنى على الذات (أنا) ثم توضيح الجانب المتفوق فيه (المال). وكذلك الأمر في كلمة "نفراً" التي ميزت "أعز".
ثانياً: التمييز غير المحول (في أساليب خاصة)
لا يشترط في تمييز النسبة أن يكون محولاً دائماً، بل قد يأتي "غير محول" في تراكيب لغوية خاصة، ذكر منها الكتاب أسلوبي "الذم" و"التعجب" والاكتفاء.
في أسلوب المدح والذم
يأتي التمييز بعد أفعال المدح (نعم) والذم (بئس) إذا كان الفاعل مستتراً مفسراً بتمييز.
الشاهد القرآني: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50].
كلمة "بدلاً" هنا جاءت اسماً نكرة منصوباً بعد "بئس"، وهي تمييز نسبة، وضحت الجانب المذموم في فعل الظالمين باستبدالهم ولاية الله بولاية الشيطان.
بعد الفعل "كفى"
من المواضع الشهيرة لتمييز النسبة التي ركزت عليها الصور، مجيئه بعد الفعل "كفى" لتوضيح جهة الكفاية.
الشاهد القرآني: ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 79].
الفعل "كفى" يدل على الاكتفاء، ولكن الاكتفاء بالله في أي جانب؟ هل كفى وكيلاً؟ أم نصيراً؟ جاءت كلمة "شهيداً" تمييزاً منصوباً لتحدد أن الكفاية هنا في مقام الشهادة.
وفي مثال آخر: ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6]، حيث ميزت كلمة "حسيباً" نوع الكفاية.
ختاماً، يتضح لنا أن "تمييز النسبة" (الملحوظ) هو أداة بلاغية رفيعة المستوى. إنه لا يتعامل مع الألفاظ الجامدة كالأعداد والمكاييل، بل يتعامل مع المعاني والتراكيب، فيفكك إبهام الجمل ويحدد المسار الدقيق للمعنى. وسواء كان محولاً عن فاعل ليفيد المبالغة (اشتعل الرأس شيباً)، أو عن مفعول ليفيد الشمول (فجرنا الأرض عيوناً)، أو عن مبتدأ لبيان الأفضلية (أكثر مالاً)، أو جاء في سياق المدح والذم، فإنه يظل "الاسم النكرة المنصوب" الذي يمنح الجملة العربية وضوحها التام ودقتها المتناهية.
.webp)